رمضان موريتانية ...
لكل مجتمع عاداته وتقاليده المنبثقة من ماضيه وحاضره، المبنية على
فلسفته في الحياة فهمًا وتنزيلاً، وحين يتعلق الأمر بالتدين
لا يختلف الأمر كثيرًا، فبالرغم من أن الدين مقدَّس، فإن التدين نسبي،
تابع للإمكان البشري أو الكسب الإنساني؛ كما سماه القرآن:
﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ﴾
[البقرة: 134].
وإذا كان الأمر كذلك في أمور الدين وممارستها في الواقع، فما بالك بالعادات والتقاليد المرتبطة بها، والتي قد لا تكون من صميم الدين، وإنما ترتبط بعدة أمور أخرى: كالثقافة الاقتصادية، والصحية، والذوق البشري المرتبط بالبيئة وإكراهاتها، وهي أمور لا يكاد يتفق الناس فيها عليها شيء.
يبدأ الاهتمام في "موريتانيا" بالشهر العظيم منذ بداية شعبان؛ حيث تلاحظ الصيام الكثير في الناس، خاصة في صفوف النساء اللواتي يقضين دَين رمضان السابق، وتلاحظ اهتمام الناس برمضان قبله بأيام، في إعداد العُدَّة المادية له، بالنسبة لأغلب الناس، وبالنسبة لشباب الصحوة الإسلامية يهتمون أيضًا بالعدة المعنوية.
يفطر الموريتانيون غالبًا على التمر والماء؛ امتثالاً للسنة الصحيحة الواردة
في ذلك، وعادة ما ترتفع أثمان التمور قبل رمضان وأثناءه، ورغم أن
السُّنة تقديم الرُّطَب على التمر، إلا أن ذلك قلما يقع، فالغالب
أن يكون الإفطار على التمر رغم إمكانية الحصول على الرطب،
وتحتوي طاولة الإفطار مع التمر والماء على الحساء المكوَّن من دقيق
الشعير، أو القمح، أو الذرة، أو المجموع من عدد من هذه الأصناف
وغيرها، وقد تشتمل أيضًا على بعض المشروبات الأخرى الساخنة
الشبيهة "بالحريرة" المغربية، وقد تكتفي بأحد هذين النوعين، لكون
كل منهما ساخنًا، ولكون غرضهما واحدًا، وهو ألا يشرب الصائم
عند الفطر الأشياء الباردة جدًّا، رغم أن بعض الناس قد لا يتقيد بذلك،
وهو ما يسبب لهم متاعب صحية، كما تشتمل مائدة الإفطار أيضًا على
بعض العصائر أو المشروبات الباردة، وخاصة "المذق"،
الذي تعود الموريتانيون منذ القِدَم على شربه، ويبقى بعد ذلك اللحم
الركن الأساسي في أي وجبة إفطار، ويحضر غالبًا مع البطاطس،
وقد تختلف طريقة إحضاره من مجتمع إلى مجتمع، ومن أسرة إلى أسرة،
لكن في الغالب الأعم تجتمع هذه الأشياء في وجبة الإفطار،
كما تشتمل مائدة الإفطار على الشاي الأخضر، والشاي
الموريتاني الأخضر - بالمناسبة - مميَّز في تحضيره، ويأخذ إعداده
وقتًا كبيرًا؛ لأن "الرغوة البيضاء" ركن أساسي من أركانه، فلا بد
من ترديده كثيرًا بالأكؤس حتى يحصل على مستوى كبير من تلك الرغوة،
وإلا لم يستحق أن يطلق عليه الشاي، ويصبح تقديمه للضيوف جريمة نكراءَ.
والشاي أيضًا في موريتانيا يميزه أنه يعطَى على شكل دفعات صغيرة
في أكواب صغيرة جدًّا[4]، يُصَب في الكأس ما لا يصل إلى نصفه،
ويكون النصف الثاني مملوءًا بالرغوة البيضاء، ويطلقون على تلك
الرغوة "التحصيص"، أو "التحصاص" بالعامية، وكذا يطلقون عليها
"التنسيم"، إلى غير ذلك من التسميات.
وعادة ما يتم تناول: التمر، والماء، والحساء فقط قبل صلاة المغرب،
ويأخر الشراب والوجبة الرئيسية إلى ما بعد صلاة المغرب،
ويؤخرها بعض الناس إلى ما بعد صلاة التراويح.
وهذا القدر من الإفطار مشترَك بين الجميع تقريبًا، فلا يمنع منه الفقر،
ولا يرفع عنه الغنى، فالفقير مهما كان مُدقعًا، لا بد أن يحصل على
تمرات يفطر عليها، وشايًا، ومذقًا، ووجبة فيها لحم وبطاطا، والغني
مهما كان غناه، لا يترفع على هذا، وإن اختلفت الكم والكيف.
ولا يسرف الموريتانيون غالبًا في وجبة الإفطار، بل يأكلون كما هي
عادتهم في عموم حياتهم أكلاً عاديًّا، بل قد يمنع الشرابُ بعضهم
من الأكل، فيؤخِّرونه إلى ما بعد صلاة التراويح كما مرَّ.
وهذا ما يسبب لكثير من الموريتانيين انتقاصًا شديدًا في الوزن
في رمضان، وهو ما يجعلهم أيضًا يستغربون أشد الاستغراب
حين يسمعون في بعض القنوات العربية الحديث عن زيادة الوزن
في رمضان؛ لأنه شيء غريب على أسماعهم، منافٍ لعاداتهم
وتقاليدهم وطباعهم.
وهناك متعلقات أخرى بالإفطار منها:
• الإفطار الجماعي:
سواء كان منظمًا من جمعية خيرية أو من محسن - وهو نادر جدًّا
خاصة في شكله الذي نرى ونسمع في البلدان الأخرى -
فعادة الشعب الموريتاني عمومًا، الانفتاح والتسامح والكرم خاصة
في استضافة الناس، وفي رمضان بشكل أخص، فقلما يراك إنسان
وقت الفطر خارج منزلك إلا سألك أن تفطر معه، ورغم فقره،
فسيشارك ما عنده كائنًا ما كان، وحتى الأغنياء حين ينفقون يأخذ
إنفاقهم في الغالب الشكل الاجتماعي المعرفي، فينفقون على
من يعرفون أو تربطهم بهم علاقات اجتماعية، وفي الغالب يدعون
الصائم إلى بيوتهم؛ ليفطر فيها، ويندر أن يرسلوا إليه الإفطار جاهزًا.
وهذا لا ينفي أن هناك جمعيات خيرية تعمل على إفطار الصائم،
لكن نسبة انتشارها محدودة، نسبة الإقبال عليها أيضًا محدودة،
فأغلب الناس يُفطرون في بيوتهم أو بيوت جيرانهم ومعارفهم وأقاربهم،
وقلَّ مَن يفعل غير ذلك.
• العشاء والسحور:
قلَّ من الموريتانيين مَن يأكل ثلاث وجبات في الليلة الواحدة،
بل معظم الموريتانيين لا يفضِّلون ذلك، ولا يقومون به إلا في حالة
وجود ضيف يرجون المبالغة في إكرامه؛ ولذلك تختلط المسمَّيات
في مثل هذه الحالات، حتى يسمى الفطور باسم العشاء،
ويسمى السحور باسم العشاء أيضًا، فمثلاً حين يؤخر بعضهم وجبة
الإفطار إلى ما بعد التراويح، يسمونها عشاءً، وحين يعجلون السحور،
فيأكلونه قبل الفجر بعدة ساعات، يسمونه عشاءً أيضًا،
ومع أن العشاء والسحور لا يجمع بينهما في الغالب كما مرَّ،
إلا أن الحديث عن كل منهما على حِدة مناسب.
تقدَّم أن العشاء قد يكون سحورًا إذا قدِّم، أو إفطارًا إذا أخِّر،
إلا أن مادته تختلف في الحالين، فالفطور يأخذ غالبًا الشكل الذي
قدمنا من كونه يشتمل فيما يشتمل عليه، أو يتركز أساسًا على
اللحم والخضروات خاصة البطاطا، إلا أن العشاء إذا كان، فيكون
بمادة ثقيلة مثل "الكسكس"، أو "المعكرونيا"، وقلما يكون بالأرز
رغم كثرة استخدام الموريتانيين للأرز طيلة العام، فما يؤكل
في وسط الليل - وهو المسمى عشاءً - لا بد أن يكون ثقيلاً،
أو في قيمة الثقيل؛ لأن هناك بعض الوجبات تعتمد على أنها وجبة
ثقيلة يمكن الاعتماد عليها في الغداء أو العشاء، وقد لا تكون الحقيقة
كذلك، مثل "المعكرونيا"، التي تكون وجبة عشاء في كثير
من بيوت الموريتانيين.
كما أن وجبة العشاء يلازمها الشاي متقدمًا عليها أو متأخرًا عنها،
فالشاي ضروري للموريتانيين، وأغلبهم يتناوله ثلاث مرات على
الأقل في اليوم، وكثيرًا ما يزيد العدد في ليل رمضان؛ خوفًا من الصداع
الذي يصيب المداومين عليه حين يمتنعون عنه في النهار.
• وقت السحور
وقت السحور - كما هي السُّنة - آخر الليل مما يلي الفجر،
والموريتانيون يختلفون فيما يتناولون فيه، فالذين يعتمدون وجبة العشاء
لا يتناولون في السحور إلا الشاي والمذق، وقد يشربون المذق فقط،
وقد يشربون الماء فقط، وقد يضيف البعض أشياءَ خفيفة مثل تمرات
أو ما أشبه، هذا إذا كان قد تناول وجبة العشاء، أما من لم يتناولها،
فيتناولها حينها، إلا أن الطابع العام لوجبة السحور هو الخفة،
وليس الثِّقل، وقلما يؤخر العشاء - إذا كان ثقيلاً - إلى وجبة السحور.
ثانيًا: الجانب الروحي:
وهذا وإن كان الجانب الأهم في رمضان، إلا أن تقدم الفطور
عليه، وتأخر السحور عليه، قد يبرر تأخيره، خاصة أن التأخير
قد يكون للاعتناء، وقديما قيل: "وكم من آخر في رتبة التقديم"،
والجانب الروحي في رمضان الموريتانيين يمكن أن نتناول فيه الآتي:
1- العلاقة بالمسجد:
يزداد الإقبال على المساجد في شهر رمضان بشكل ملحوظ،
على المستويين الشعبي والرسمي، فالدولة توفر في جامع العاصمة
كل يوم - وفي الجوامع الأخرى، وجوامع الداخل، كلما
سنحت الفرصة - فقهاءَ يعظون الناس، ويُفقهونهم في أمر دينهم،
ويردون على أسئلتهم واستشكالاتهم، ويستوي في ذلك النهار والليل،
فالناس يتوجهون إلى المساجد مبكرين أكثر من ذي قبل، بل قد ينام
بعضهم في المسجد، ولا يجدون في ذلك غضاضة، رغم منع مثل
هذا في بعض البلدان الأخرى، واستنكاره فيها، ويعود مثل هذا النوم،
إلى الطبيعة البدوية للشعب الموريتاني، الذي ما زال ينظر إلى المسجد -
في كثير من الأوقات - وكأنه المسجد النبوي الشريف الذي كان الناس
لقلة الأمكنة وصعوبة الظرف يجهزون فيه الجيش، ويدخلون إليه المريض،
وينام فيه من لا بيت له....إلخ، رغم استنكار الشعب الموريتاني
لما سوى النوم في المسجد من أحاديث دنيوية، أو مناقشات
سياسية تجد الرفض الكامل من المصلين والمنتظرين الصلاة، متأثرين
في ذلك بالفقه المرابطي إلى حد كبير.
وعلى كل، فالمسجد في النهار مأوًى للصائمين، يتصلون فيه بربهم،
فيصلي المصلي، ويقرأ القارئ، ويتعلم الجاهل، وقد ينام فيه من شاء
حين يجد الرغبة في ذلك.
والمسجد في اليل مثوى القائمين، تتوافد الناس إليه قبيل صلاة
العشاء، ويصلون فيه التراويح.
2- التراويح:
أما التراويح، فالغالب الأعم أن كل الناس يصلونها رجالاً ونساءً،
وبالرغم من أن المساجد الخاصة بالنساء جديدة على بنية المسجد
في موريتانيا، فإن النساء منذ القديم كن يتوافَدْنَ على المسجد،
فيقفن منه بحيث يسمعن القراءة والدعاء، ويصلين مع الناس ويَنصرفنَ،
وعادة الموريتانيين في التراويح أن يعملوا على الختم في ليلة السابع
والعشرين من رمضان، تلك الليلة التي وردت آثار كثيرة وأحاديث
صحيحة أنها من مظان ليلة القدر، وقد بلغ بالموريتانيين التماس
ليلة القدر فيها درجة جعلتهم يسمونها "ليلة القدر"، وكأنهم يجزمون
أنها هي يقينًا.
وبعد الليلة السابعة والعشرين في رمضان يقرؤون ما يعودون
إلى البداية، ويقرؤون بنفس المعدل في الليالي الباقيات.
يحتفل الموريتانيون بعيد الفطر وسط أجواء عائلية ودينية تبدأ بإخراج زكاة الفطر والذهاب إلى الصلاة جماعة، وتنتهي بصلة الرحم والخروج في نزهات عائلية إلى البوادي والاستراحات القريبة من المدن.
ويحرص الموريتانيون، الذين يحتفلون بعيد الفطر مثل غالبية الدول العربية يوم الأحد، على زيارة أهاليهم ومباركة العيد للأقارب والجيران، كما يحرصون على تقديم العيدية للأطفال لإدخال فرحة العيد على قلوبهم.
مع تحيات