10-31-2020
|
#4
|
|
- شهيدٌ ياأمَّ وليد … شهيدٌ يا عروستي الحبيبة … شهيدٌ يا ياسمينتي الجميلة …
- الحمد لله … ماأكرمك يارب أن ختمت حياتي بالشهادة.
ثم نظر إلينا، وقد رأى العبرات تغسلُ خدودَنا … وقال بصوت واهن خافت :
- ثقوا بالله … ولا تيأسوا …
- لا تخافوا … ولا تحزنوا …
- فقد تكفَّلَ اللهُ بالشام وأهله.
ما لبثَ وليد ورفيقَه الملثَّمُ أن غادرا المنزل على عجل، ليلتحقا برفاقهما المجاهدين، بعد أن أودعا جثة الشهيد أمانة في ترابي، تُظلله أغصاني، وتتساقط على قبره زهراتي البيضاء، وقد امتزجت رائحتُها الزكية بدمائِه الأبية، فملأ عبيرُها أرجاءَ القيمرية، وجميعَ ربوع الشام.
وبكيتُ … بكيتُ … أنا الياسمينةُ البلدية … وبكت معي الوردةُ الجورية … والفلَّةُ البيضاء … والنارنجةُ الطيبة … ومئذنةُ العروس … وقبةُ النسر … ورددت القيمريةُ كلُّها صدى بكائِنا … وبكتِ الشامُ كلُّها لدموعِنا … بيوتُها … أسواقُها … خاناتُها … دروبُها … وبكى لبكائِنا النهرُ والبحر … والسهلُ والنَّجد … والسماءُ والأرض … وكل طَيِّبٍ وخَيِّرٍ في الكون … فالكونُ يبكي … حينَ يبكي الياسمين.
انطلقت أم وليد مسرعة صوب غرفتها تحزمُ حقيبتها، تحشوها بالوثائق والأوراق، تُحكِمُ إغلاقَ النوافذ، وتوصدُ الأبواب، وتسابقُ الزمنَ، خوفاً من قدوم المجرمين الباحثين عن أبي وليد ورفاقه المجاهدين، وخوفاً على عروستها من سطوة الظالمين.
تفلَّتتِ (العروسة) من قبضة أمِّها، تتوسلُ بدموعِها أن تُمهِلَها لحظاتٍ قليلة، وانطلقت صوبي، عانقتني، لثمتني، قبَّلت زهراتي، روت بدموعِها السخينة براعمي الغضَّة، رفيقاتِها في الصبا والجمال، قبضت بكفها الناعمة على غُصين من أغصاني الوليدة، قطفته برفق، طلبت مني الإذن والسماح، ضمَّتهُ إلى صدرها، ووضعته قُربَ قلبها، ورجته أن يظل (من ريحة الشهيد) رفيقاً لها في دربها، مُؤنسا لها في غربتها.
أغلقت أم وليد (باب الزقاق) بـ (الساقط) الكبير، واستودعت ذكرياتها وماضيها من لا تضيع عنده الودائع، فما انتصف النهار إلا وقدماها تائهتان في أرض الله الواسعة، ويدُها قابضة على عروستها كالقيد المحكم في يد السجين.
لَفَحَتهَا رمالُ الصحراء، وثُلوجُ الأرْز، عطشت من مياه النيل، وخنقها دُخان النفط، تربص بها وبعروستها الأعراب والأغراب، ورماها بأحجارهم الروم والعجم، وراودَها عن نفسها وعروستها تجارُ المال والسلاح والدين، طلبوا إليها أن تستبدل الإيمانَ بالضلال، والسماحةَ بالحقد، والحضارةَ بالدم، والطهارةَ بالفحش.
لم يَمُدَّ لها يد العون أحد، ولم يُسعفها قريبٌ أو غريب، إلا فلاحٌ طيبٌ غارقٌ في طين أرضه، أو عربيٌ أصيلٌ لازال صامداً على فرسه، أو ابن بلدٍ كريمٍ محافظٌ على عهده، فانتهى بها الحالُ وابنتَها (العروسة) على ظهر سفينة قديمة، تتقاذفُها الرياح الهوجاء، وتتلاعبُ بها أمواجُ البحر الغاضبة، تَذُرُّ الملحَ في عيون الخائفين، وتَسقي المُرَّ غُصَينَ الياسمين.
وسار المركب المُتهالكُ يُصارعُ الأنواءَ فيَنُوءُ بها كَلكَله4، ويُغالبُ الأمواجَ فتَغلِبُه، وقد أرخى الليلُ سُدُولَهُ على الهاربين من القدرِ إلى القدر5، فزادَ همومَهم همَّاً، وأحزانَهم خوفاً وغماً، وقرر الفُلكُ القديمُ أخيراً أن يكتبَ نهايةَ القَضِيَّة، وأن يُودِعَهَا أمانةً في خزائنِ الكون، فاستجاب لموجةٍ عاتية، وانقلبَ بحملهِ من الأسَى والأحزان، ليُودِعَ في بطنِ البحرِ شهادةً على الجريمةِ النكراء، تطوفُ بها الأسماكُ والحيتان، دليلَ إدانةٍ لِكُلِّ بَنِي البَشر.
تراخت قبضةُ أمُّ وليد عن يد (العروسة)، بعد أن أعيَتها عواصفُ الليل، تتلاعبُ بها كوُرَيْقَةٍ يابسة، فكأنها عودٌ صغيرٌ بيدِ مجنونةٍ لاهية، وتراءى لها من بعيد خيالُ (تم السمكة) الخبيثة، تفتحُ فَمَهَا الكريه، وتَمُدُّ لسانَها ساخرة، فتنزلق أمُّ وليد بداخله مودِّعةً الحياة، تاركةً (عروستها) وحيدة بيد القدر.
رفعت (العروسة) يدها عالياً لتحميَ غُصينَ الياسمين الغض من ملحِ البحرِ ومُرِّهِ، رجته بشدة، توسَّلت إليه أن لا يخذلها كما خذلها الباقون، وألا يُفارِقَها كما فارقها جدها وجدتها وأبوها وأمها، فهو حبيبها وهي حبيبته، وهو خطيبها وهي عروسته.
ذرفت دموعُ الياسمين، فهل لغصينٍ غضٍ طريٍ ضعيف، أن يصمُدَ في وجه المحن، ويُوصِلَ عروستَه إلى بَرِّ الأمان، وأطلق تنهيدة حملت ما في صدره من عطر وعبير، فنثره في وجه الظلم والظلمات.
وبكى غُصين الياسمين، فبللت دموعُه وجهَ السماء … وأديمَ الأرض … وبكى لبكائِه النجمُ والقمر … والتُربُ والحجر … وكل طَيِّبٍ وخَيِّرٍ في الكون … والكونُ يبكي … حِينَ يبكي الياسمين.
- هنا .. هنا .. أحضر جهاز الأكسجين بسرعة.
- لقد ابتلعت كمية كبيرة من الماء.
- اطلبوا الإسعاف بسرعة.
كانت (العروسة) ممدةً على الشاطئ شاحبةً متشنجة، متوقفة الأنفاس، قابضةً بكفها الصغيرة على غُصينِ الياسمين المتعبِ الذابل، متشبثةً به، فلم يَقوَ رجال الإنقاذِ على انتزاعه منها بأي وسيلة.
- دعوه في يدها .. لا بد أنه عزيز عليها.
- حسناً .. حسناً .. شكراً لكم .. لقد بدأت تتنفس من جديد.
- شكرا لأجهزتكم .. لقد نجحنا.
نُقِلَت (العروسة) إلى خيمة صغيرة أعِدَّت على عجل، وتحلَّق حولَها جمعٌ من الناس، فيهم الأبيضُ والأسود، والأصفرُ والأشقر، سألوها عن اسمها واسم أبيها وأمها، عن الحجي والحجة، عن بيتها، وعن القاعة، والفُستُقية والقبقاب، عن مِئذنة العروس و خطيبها الدُّومَرِي، وعن زلاغيط النِّسوة وعراضة الشباب، عن الساقط و السقاطة، وعن المَكدُوس والسكبة، وعن نور الدين الشهيد، وعن الورد الجوري، وعلاقتها المشبوهة بالقيمرية والياسمين.
أعطوها رزما كثيرة من الصحائف والأوراق، أرادوا نزعَ ثيابِها البيضاء المرصَّعةِ بالدماء، وعدوها أن يُودَعَ ماضيها في أرقى المتاحفِ والقصور، وأن يَبنِيَ حاضرَها ومستقبلَها جمعٌ من الخُبراء، مَنَّوها بأعذبِ الشراب، وأجملِ الثياب، وأثمنِ العطور، وأمهلوها ليلة أو ليلتين، فالبحرُ هادر، والليلُ جاثم، والحرابُ جائعة، وعليها أن تحسمَ الأمر قبل فوات الأوان.
لم تنبس ببنت شَفة، ولم تذرف دمعة واحدة، فقد تيبست الكلماتُ في شفتيها، وتحجرت الدموع في مآقيها، وهل يُحييها إلا نسيم الغُوطة، وهل تَرويها إلا دموعُ الفيجة، وهل يُعطِّرُها إلا عبير الياسمين.
حتى إذا نشرَ الليلُ سَوادَه، وأطفأ النهارُ سِرَاجَه، تسللت من خيمتها في ضوء القمر الخافت، وانطلقت مستعينة بخالقها، ترقبُ خطواتَها نجومُ السماء.
توقفت عند التل القريب، أدارت وجهها، فلمحت عيناها، عويلَ الريح، وغضبَ البحر، وحطامَ المركب، وحبالَ الخيمة، وقطيعَ المتفرجين، رفعت بيُسراها أوراقَ الأممِ والعرب، وحقوقَ البهائمِ والإنسان، ودعايات الأصدقاء ووعيدَ الأعداء، ودجلَ الحكومة وسَفَهَ المُعارضة، وحِراب القتلة وسيوفَ الخَوارج، بصقت عليها جميعا، وداستها بقبقابها الخشبي القديم، وانطلقت بعيداً لا تلوي على شيء.
سارت (العروسة) وحيدة، بثيابها الممزقة، وأقدامها الحافية، وعروقها العطشى، وبطنها الخاوية، تحمل جراحَها وآلامَها في قلبها، وغُصينَها الحبيب بيُمناها، تنشرُ عطرَ الياسمين في كل مكان حلَّت به، وتزرعُ الأمل في كل بلد مرَّت به، تحميها وحوشُ الغاب، وجوارحُ الطير، وتنافحُ عنها يد الطيبين، وبنادقُ المجاهدين، فسقطت أمامها الحدود، وانهارت الحواجز.
خَطَتِ (العروسة) أولى خُطواتها في القَيمَريَّة، سَحَرَ إحدى الليالي، بعد أيام طويلة من المسير، ولمحت عيناها من جديد (باب الزقاق) العتيد، فمدت يدها وأخرجت (الساقط) من (عُبِّهَا) الصغير، وأدارته في (دقر) الباب، وولجت منزلها الحبيب.
كانت الورود والأزهار والشُجيرات يابسة، تبتهل إلى الله أن يغيثَها بماء السماء بعد أن تخلت عنها مياه الأرض، وقد تراكم التراب على عتبات الشبابيك و أرض الديار، وتناثر زجاج النوافذ المحطمة في أرجاء المكان.
ألقت (العروسة) التحية على مئذنتها الحبيبة، وقبَّلت (الفُلَّة البيضاء)، واعتذرت لـ (الوردة الجورية)، وجثت على ركبتيها، تضمُّ إلى صدرها الصغير أغصانَ الياسمينة العطشى، وترويها بدموعِها الحنونة، طالبة منها العفو والسماح، وتعهدت ألا تُفارِقَها مهما كانت الظروف.
تاه القتلة وهم يبحثون عن (العروسة) في كل صوب، وأرسلوا قذائفهم تتعقَّبُها من درب إلى درب، فقد تعرفت إلى الكثير من الأسرار، وحوت في صدرها ألفَ قصة وقصة، وفوق ذلك فهي ليست طيبةَ السُمعَة، نَقِيَّةَ السيرة، قَويمَةَ السلوك، فلها ألفُ ألفُ حبيب، وألفُ مُتيمٍ وألفُ عشيق.
فليكن قتلُها عبرةً لكل حالم، ودرساً لكل ثائر، فكَّرَ في يوم من الأيام، أن يتمرد على أسياده، أو يثورَ على مُستعبديه، وَلْيَكتُموا صوتَها، وَلْيُحْرِقُوا غُصينَها، قبل أن تفضح نَتَنَ الظالمين، وتنشر في الكون عطرَها الأثير، عطرَ الياسمين.
وباءت بدمِ (العروسة) شظايا قذيفة غادرة، حملت في جوفها دناءة المجرمين، فسقطت شهيدة، عند أبيها الشهيد، يرنو إليها هابيلُ الشهيد، وتَفَلَّتَ من يدها الغضة الندية غُصينُ الياسمين، وأطلق تنهيدة واهنة، نثرت آخر ما تبقى في صدره من عبير، فامتزج بأنفاس عروسته الشهيدة، وتعانقت روحاهما معاً إلى السماء.
لكن مجموعة من براعمه الصغيرة الوليدة، تشبثت بتراب القيمرية …
وارتوت من دموع ودماء (العروسة) …
فورثت منها العزيمة والمضاء، والإصرار على البقاء …
فمدَّت جذورَها في الأرض من جديد …
وأقسمت أن تظل دِمَشْق … عَرُوسُ اليَاسَمِينْ.
يتبع
|
|
|