10-31-2020
|
#3
|
|
جابت عراضة العريس حارات الحي العتيقة، فمرت بـ (النَّارنجة)، و (سوق القاضي)، لتصل إلى (ستي رابعة)، حيث يقع بيتا العريس والعروس، وحين وصل أبو وليد إلى البيت، تلقَّتهُ أمُّه الحجةَ وقريباته فاجتاز الدهليز الموصلَ إلى أرض الديار، وأطل على النسوة المُتَلَفِّعَاتِ بالأغطية والمناديل البيضاء، تستر رؤوسَهُن وزنودَهُن العارية، فاستقبلنه بالزلاغيط يرددن :
أوها ياعريس لاتعبس ..
أوها فريد البقجة والبس ..
أوها شواربك عروق الريحان ..
أوها وسوالفها عروق النرجس ..
لي لي لي ليش
أوها ببيتنا رمانة ..
أوها حامضة ولفانة ..
أوها حلفنا مامنقطفها ..
أوها ليدخل عريسنا بالسلامة ..
لي لي لي ليش
أوها عاللعلعي عاللعلعي ..
أوها ياصبايا تجمعي ..
أوها ياليل طول طول ..
أوها وياشمس لاتطلعي ..
لي لي لي ليش
يا عروسة ويا بنت الدلال والخير ..
ويللي طلع بجهازك ألف كم وديل ..
ويللي طلع بجهازك الف سرية ..
ومية عبد يشدوا بركاب الخيل ..
ووزعت على الضيوف صُرَرُ (الملبس) وصحون (القيمَع و الدَّندرمَة) المعجونة بالفستق.
كانت ليلة من ليالي ألف ليلة وليلة، تمايسَ فيها الوردُ الجوريُ على شعور الصبايا، وازدانت الصدورُ بأطواق الياسمين، تُجاورُ عقودَ اللؤلؤ والألماس، وانتثرت على الموائد وبين الأطباق باقات النرجس المغرورة، وتبادلت الأيدي الناعمة أزرار الفلِّ البيضاء، وبَدَتِ العروسُ في بدلتها المصنوعة من الـ (قصب صَرمة) كنجمةٍ فَرَّت من مملكة السماء، وفي الـ (صَبَحية)، فتح أبو وليد عينيه على غناء عروسه أم وليد وهي تترنم، وتَعِدُ زوجَها بمستقبل سعيد :
يسعد صباحك ياللي صبحتني أنا اليوم
لشلحلك البدلة الرسمية ولبسلك قميص النوم
لم يمض وقت طويل على (فرحة) الحجة بابنها أبي وليد، حتى أتمَّ الله سرورَها، فرُزقت بحفيدها وليد، أعقبته بعد ذلك بفترة أخته (العروسة) المغناجة، حبيبةَ جدها وجدتها، ومدللتهما الصغيرة، وقُدِّمَت في (المباركة) في كل مرة، فناجين (الكراوية) الكبيرة المجللة بـ (المُكَسَّرَّات)، وتلقت الحجة وأم وليد (النُّقوط) من المهنئين.
كانت (العروسة) الوليدة كثيرةَ الدلال، تتقلب بين أحضان أمها وجدتها، تنعم بحنانهما ودفئهما، وهما تُهَدهِدَانها كي لا تزعجَ جدها بصياحها وضجيجها، فلم تكن تهدأ أو تنام إلا إذا داعبت أسماعَها أغنيةُ جدتها الحجة بصوتها الرقيق :
نامي يا عروسة نامي
لادبحلِكْ طير الحمامِ
و يا حمامة لا تخافي
عم بضحك عا بنتي لتنام
وكنت أنا الياسمينة الغبية، أرتجف خوفاً وحزناً على الحمامة المسكينة المذبوحة، التي ستسيل دماؤها على أرض الديار، من أجل عيون (العروسة) المدللة، وأعجَبُ من هذه (العروسة) الشريرة، التي لاتهدأ ولا تنام إلا إذا سالت دماء الحمام، إلى أن أدرَكتُ فيما بعد، أنها مجرد أغنية شجية، يَرضعها الأطفال مع حليب أمهاتهم، ليتعلموا منها أساليب الكلام، وطرائق التعبير، ومُلَحَ القول.
تحققت أمنية الحجي و الحجة، فهاهو البيت يحيا من جديد، وصرخات وليد و (العروسة)، وأصوات قباقيبهما الصغيرة تملأ المكان، وشقاوتُهما وطيشُهما يُعيدان ذكريات أبيهما أبي وليد، فراحا يتسلقان الأشجار، ويقصفان الأغصان الرقيقة، ويقطعان الزهور والورود، وكنت أسامحهما قانعة راضية، فأنَّى لطفلين صغيرين أن يعرفا قيمة الياسمين.
كم مرة غافل وليد و (العروسة) الحجة، فدخلا القاعة، وأوقعا (السكملات) الصدفية الثمينة، وقفزا فوق الطواطي، واختفيا في (اليوك)، وبعثرا الطعام في (النَّملية)، وكادا يحرقان أصابعهما بالـ (مَنقل)، فعادت (طاسة الرَّعبة) بزخارفها والآيات التي نُقشت عليها للعمل من جديد.
كانت الأيام تمضي ما بين (لازمة) وأختِها، فأهل الحي كلُّهم يحبون (اللَّمَّة)، ويَهيمون بـ (العرَاس المطنطنة)، ويَهوون الحفلات، ويعشقون (السَيَارين)، و يستمعون للـ (الحَكَواتية)، ويتفرجون على (كَرَكوز وعِيوَاظ)، وكل ما ماثلها من (خَيلات).
وكم كانت جميلة أماسي الصيف، حين يجتمع الرجال من عَلِيَّة القوم في الليوان، يتمتعون بحسننا وجمالنا، ويتجاذبون أطراف الحديث، ويتذاكرون لياليَ الأُنس في (قصر العَظم) أو (بيت المجلد)، ويسير حديثهم هينا لينا مليئا بالمجاملات، يطلب أحدهم كأسَ ماء أو شراب، فيأتيه الجواب (حاضر على راسي وطرة طربوشي)، يداعبُ آخرُ أحفادَ الحجي ويقول له مبتسماً (يربو بدلالك) و (الله يخليلك هالشمعات).
ثم يتشعب بهم الحديث عن الناس والأحداث، ففلانٌ ليس له قيمة فهو (صفر عالشمال)، وآخر ليس كُفأً لتَحَمُّلِ المسؤولية لأنه (سايقها عَوَنطَة)، وذاك الغبي أو المُستغبي (خالط شعبان برمضان)، وعَلَّان غيرُ فاهمٍ لأمور الحياة ومطالبها فهو (مطبل بالدنيا مزمر بالآخرة)، أما الحجي و (كبارية) الحي فهم دقيقون في أمورهم، منتظمون في حياتهم، فهم (لايحبون الزاحلة).
أو حين يجتمع النسوة في أرض الديار، فـ (يَكْبِسن) (المَكْدُوسَ) بالزيت، بعد أن يَحشينه بالجوز والثوم والفليفلة الحمراء، أو وهن مُشَمِّرات يَعصرن البندورة، أو يَنشرن الملوخية، أو يَغلين الجبنة، أو يَفلقن المشمش البلدي، أو يَشوين (الكبَّة)، أو يَحفرن (المَحشي).
وحديث النسوة طويلٌ متشعب، تتخلله ضحكةٌ من هنا، وهمسةٌ وغمزةٌ من هناك، وأولاد يركضون لإحضار طلبات أمهاتهن الصائحات الموجهات لهم (ليكو) و (ليكوكه)، فإذا جَدَّ الجَدُّ فالحجة هي الآمرة الناهية، لا يجرؤ أحد على مخالفتها، أو (كسر كلمتها)، فهي ست البيت، ولو طلبت لبن العصفور لنالته.
كان حديث النسوة مسلياً كحديث رجالهن، مُوشى بـ (المَتَلْ)، مليئا (بالوَمَا) والإشارات، لايفهمه إلا من نشأ بينهن، فشرب من مائهن، وتنفس من هوائهن، يسخرن من حديث أبو فلان فيُشبهنه بالغراب الناعق فوق شجرة الجوز، يزعج السامع ويجلب الشؤم فهو (متل القاق على الجوزة)، ويتندرن على أبي فلان الغارق في مشاكله ومتاعبه لايجد لها حلاً ولا مخرجاً فحاله (متل الخنفسة بالطاسة)، ويشتكين من عبوس أبي علَّان لأنه (ما بيضحك للرغيف السخن)، ويهزأن من انكشاف سر إحداهن فهنَّ (دافنين الشيخ زنكي سوا)، ويستعذن على الدوام من (العيون الزرق والأسنان الفرق)، ويُرجعن جميعَ مصائبهن ومشاكلهن إلى مِقَصٍ تُرك مفتوحا، أو نَعلٍ وضع مقلوبا، ويختمن حديثهن قائلات (الله يرحم أهل المَتَلْ … ما تركوا شي ما قالوه).
وليالي رمضان، آه من ليالي رمضان، كنت أنتظر بائع الناعم يُسمعنا غِنوَته الغزلية الشجية (يللي رماك الهوا يا ناعم)، وكنت أراقب (السكبة) كل إفطار وكل سحور (رايحة جاية) من بيت إلى بيت، مثلنا معشر الياسمين، عطرنا وجمالنا مشاع بين الناس.
عادت طلقات الرصاص تدوي من جديد، وقد رسمت الشمس أولى خيوطها الذهبية على جدار القاعة، وانتشر الضياء في أرض الديار.
في هذا الوقت من كل صباح، يخرج الحجي بُعَيدَ شروق الشمس، رفقة ابنه أبي وليد من الباب القبلي للمسجد، فينعطف شمالا، ليسير بحذاء الجدار الطويل، ماراً بـ (القباقبية)، ملقياً التحية على أصحاب الدكاكين وهم يفتحون أغلاق محلاتهم، ويُعَلِّقون قباقيبهم وبضاعتهم على الواجهات، ثم ينعطف شمالاً مرةً أخرى، فيصلُ بعد خطوات قليلة إلى باب جيرون الشرقي، ليتابع سيره بجانب النوفرة الصغيرة العريقة الشهيرة، ويدخل عندها في حيِّنا الجميل.
أنا (قيمرانية)، نسيتُ أن أخبرَكُم، أنا ياسمينة شامية بلدية، وأنا (إيمرانية)، عشت في (القَيمَريَّة) قبل أن تولد، ثم ولدت مع ولادتها من جديد، (القيمرية) مثلي أصيلةٌ (بنت بلد)، هي من الشامِ في القلب، وهي أمُّ الشام وصدرُها الحنون، (راتبة) كأهلها (الأكابر)، حتى قنصل الإنجليز سكن في حيِّنا من شدة إعجابه به.
حين تطأ قدما الحجي أرض الديار تكون الحياة قد دبَّت في أسواق الحي، وأصوات الباعة تعالت في الفضاء، تغني للفواكه والخضار، فبائع التوت الشامي يناديه مادحاً (أكله شفا ياشامي)، وبائع اللوز الأخضر يغني للوزه (أول فواكي الشام يا عوجا)، وبائِعَي البندورة والصبَّارة يغازلان ثمارَهما (حمرا يا بندورة) و (مَزَّاوية يا صبارة)، بينما حاز الخيار على أجمل الأوصاف وأكملِها (أصابيع البوبو يا خيار).
كنت أمضي أسعد أوقاتي بين (مواويل) الباعة، ولَغو النسوان، وشقاوة الأولاد، وسهرات الرجال، ممتعة ناظريَّ بـ (مئذنة العروس) و (قبة النسر)، فكم هو جميلٌ أن تعيش ياسمينة طيبة مثلي بين عائلة رضية هنية.
لكن السعادة لا تدوم، ولحظات الفرح قصيرة، سرعان ما تمضي هاربة مولية، مرض الحجي، وطال مرضه سنوات عدة، تتحسن صحته بعض الوقت ثم تسوء من جديد، كنت أصلي له كلَّ فجر، وأشتاق إلى كفه الخضراء الحنون، وصوتِه الأجش، لكنَّ القضاء حُم، والأجلُ قدرٌ لا مفرَّ منه، فأسلم الروح إلى بارئها بُعَيْدَ فتنة (البَعْث) بأسابيع قليلة.
كان يسأل الله دائماً أن يجنبه عشرة هؤلاء الأنجاس، فهم والفَرَنسَاوي سواء، بل هم أسوأ من الفرنساوي ألفَ مرة، فهو عدوٌ ظاهرٌ غريبٌ عن البلد وأهلِها، أما هؤلاء، فعدوٌ باطنيٌ مُستَتِر، يتحدث بلسان أهل البلد، ويدَّعي الإنتسابَ إليهم، ثم يغدر بهم مقابل حفنة من متاع.
كان دائم الحزن على الشام وأهله، يسترجع ما عانوه في غابر الأعوام، ويستجلي ما ينتظرهم في قادم الأيام، فحظهم من الدنيا كما يقال (فوق الموتة عَصّة قبر)، ولمَّا أخبر بتحالف البعثيين مع الإشتراكيين والناصريين في انقلابهم المشؤوم، ما زاد على قوله متحسراً (التم المتعوس على خايب الرجا)، وحين عاده صديقٌ ممن وضع يده في أيديهم، رفض مصافحته وتَجَهَّم وجهه قائلا له : يافلان أما تستحي أ (بعد الكبره جبه حمره)، أي عذر لك في السير مع أعداء الشام وأهل الشام، أليس ( المكتوب مبين من عنوانه).
وهل تُجدي النصيحة مع أعمى البصرِ والبصيرة، فـ (يلِّي ما بيشوف من المنخل أعمى)، لكنه ظل يعتقد أن كيد هؤلاء إلى زوال، وأن الشام باقية مابقي الياسمين، وأنه في النهاية (ما بيصح إلا الصحيح)، وهكذا لم يرغب الحجي أن تُختم حياته بصحبة هؤلاء المفسدين، فآثر جوار ربه، حسن السمعة، كريم الأثر، نظيف القلب واليد.
ولم تلبث الحجة أن لحقت بزوجها وحبيبها وصديقها بعد سبع سنوات، أقعدها المرض العضال يوم بيعت البلاد، وخرجت روحها الطاهرة بعد أن تسلَّط البائع والسمسار على العباد، وما بقي من البلاد.
كانت تتألم كلما سمعت صوت (المغضوب) يُلعلع في المذياع، مُستَذكرَةً على عادتها (المَتَلَ) القائل (قال يا فرعون مين فرعنك … قلهون ما لقيت حدا يردني)، ثم تترحم على (كبارية) الحي، الذين لو كانوا أحياء اليوم، لما تركوا مجالا لهذه الإمَّعَات تتحكمُ في رقاب الخلق، فالحال كما يقول (المَتَلْ)، (غاب القط إلعب يافار).
وكان أشدَّ ما يُضحكها سماع الخطب الرنَّانة، وكلمات التهديد والوعيد، تنطلق من أفواه أولئك الخَونَة، فتقول مبتسمة على مضض (كل ديك على مزبلته صياح)، و تهزأ بهؤلاء (الحَشْت نَشْت) الذين راحوا يُعطون الناس دروسا في حب الوطن والذَّودِ عنه فتقول ( صار للدبانة دكانة وصارت تسكر عبكير)، فإذا ما سمعت وعودَهم بالتطوير والتحديث والتقدم والرفاه، مازادت على أن تقول (لحاق البوم بيدلك عالخراب).
ويوم وفاتها اكتسيتُ حلَّةً بيضاء ناصعة، فأزهَرَت جميعُ أغصاني، ونَفَحتُ أطيبَ مالديَّ من عطرٍ وأريج، فنحن معاشرَ الياسمين الشامي، حُزنُنا بياض، ودموعُنا عطر.
ومنذ وصولِ (المغضوب)، انطفأ الفرحُ في بيت الحجي، وعَلَتهُ غمامةٌ من الحزنِ والخوفِ والإهمال، فانتشر (العَواينية) في كل مكان، يرصدون حركات الناس ويُحصون أنفاسَهم، ولاحقهم المذياع والتلفاز داخل دورهم وغرفِ نومهم، يُفسد عقولهم وأخلاقَهم، ويملؤها بصديد (المغضوب) وقيحِه.
وملأت أفواج (الغرباء) و (اللاطمين) أزقة الحي، ونجَّسَت تُربَهُ، وجالت بأشكالها القَمِيئة، ووجوهها الشَّوهاء، في جنبات المسجد العريق، عابثة بحرمته، مُدنسة طهارته، وأصبح لبنات الهوى صولةٌ وجولة، بحماية حراب الطاغية وسَدَنته من (السَرْسَرِية) وعبيد المال، وطأطأت مئذنة العروس رأسها، بعد أن مٌنع الدُّومَري من إسراج أنوارها.
وضاق الحال بأبي وليد، فالمال والرزق أضحى حكرا على عبيد (المغضوب) من المرتزقة والوصوليين، واضطر مراراً أن يبيع بعضاً من (مالكانات) الحجي وحُليِّ الحجة، للغرباء القادمين من الشرق والغرب، ليُنفق على زوجه وعياله، فيقيهم مرارة التسول وذل الفقر.
كان أبو وليد يُهدي أصحابَه المهاجرين، قارورةً من عطر الياسمين، وينصحُ أصدقاءه اللاهثين وراء (المغضوب)، طمعا بالغنيمة والفوز بفتات الموائد قائلاً (يا آخد القرد على ماله … بيروح المال … وبيضل القرد على حاله)، وحين يتخلى بعضهم عنه، إيثاراً للسلامة ورياءً للطاغية، يقول في نفسه (يلِّي ببيعك ببصلة … بيعو بقشرتها).
وطالت سكينُ الجزار رقابَ العديدِ من أصدقائه الطيبين، فلم يَعُد هناك من يُسِرُّ له مافي قرارة نفسه، أو يشكو له مرارة ألمه، وأُغلِقَ الكُتَّاب و مكتب عنبر، وعوضاً عن (جُزُو عَمَّ)، حفظ وليد وأختُه (العروسة) أغانيَ (الديك)، وثالوثَ البعث، وأقوالَ المغضوبين.
سارت الحياة في بيتنا على هذا المنوال سنين طوالاً، فأصبحت الكآبةُ رفيقتَنا، والصمتُ عدتَنا، والخوفُ صديقَنا، فطينُ الأرض قد جف، وماءُ السماء قد شح، ويد أبي وليد لم تعد (خضراء) كيد الحجي من قبل، وأم وليد لم تعد كلمتها مسموعة كحماتها، وأُهمِلَت (الزريعة) في أرض الديار، ويبست بعض أغصانها، وذَبُلت أزهارُها وورودُها، فكأن البيت أضحى قبراً مفتوحاً، أجسادٌ حية، وأرواحٌ وقلوبٌ ميتة.
لم أعد أدري لِمَنْ أزهر ولمن أتعطر، فلا مُعْجَبَ ولا عاشقَ ولا مُحِب، بل كنت أحس في كثير من الأحيان، نظرات الحزن ممزوجة بالكره، تتسلل من عيون أم وليد، فنحن برأيها سبب حرمانها من العيش في الحي الجديد، لتسكنَ في بيتٍ راقٍ بني على طراز الخواجات، تملؤه الزهور والورود الصناعية، لا تحتاجُ إلى سقاية ولا عناية.
كانت إذا رأت (الهوا) تخيلت نفسها كورقة يابسة تتلاعب بها عاصفة هوجاء، وإذا لمحت (المجنونة) حسبتها أمواجاً غاضبة تتقاذفُها كعودٍ صغير، وإذا لمست (تم السمكة) بدت لها كحوتٍ كبير فتح فمه و همَّ بابتلاعها.
كانت أم وليد تكره (المغضوب) كزوجها، فهو السبب في وفاة والدها، وهجرةِ أخيها، وضياعِ ميراثها، ولم تكن لِتُسَرَّ بخلافة ابنه بعد موته، فحالُها كما يقول المَتَلْ (ما سرني القرد ليسرني أبنه).
ولم يُفلح أبو وليد في إقناعها ألا تأخذ الإبن بجَريرة أبيه، كانت مُصِرَّةً أن الفسادَ متأصلٌ في هذه العصابة فـ (طول عمرك يا تينة مجعلكة)، وهل انصلحت ذرية القرود في يوم من الأيام، أو تابت الذئاب، و (دنب الكلب أعوج ولو حطوه بمية قالب)، فكانت تبتهل إلى الله صباحَ مساء أن يريحهم من الإبن كما أراحهم من أبيه وأن (يلحق الحبل بالدلو).
كانت ترى الأناقة الزائفة لـ (المغضوب الشاب) وشُلَّتَه، فتشبههم بجامع القُمَامَةِ الذي ارتدى أفخم الثياب، ورش نفسه بأثمن العطور، وتقول (زبال وشاكل وردة)، وتسخر من العمائم المنافقة التي تدعو له صباح مساء، فكأنهم فئران نجسة أدمنت سُكنَى المجارير، ثم راحت تتصنع الطهارة، رافعةً أيديها إلى الله، فأنَّى يُستجابُ لها، فـ (لا الفارة طاهرة ولا الدعوة مستجابة).
لكنها لم تألُ جهداً في نصحِ زوجِها وتأنيبِه، وكبحِ جماحِه ورَدِّه عن مشاكسة أزلامِ الطاغية وأعوانه، فالخنزير برأيها لن يَطهُرَ في يوم من الأيام، مهما غُسلَ بالماء، ولن تُستأنسَ الأفاعي الغادرة، فلاصلاح لسادرٍ في غَيِّه، وغارقٍ في إثمه، و (فالج لا تعالج)، ولطالما رجته أن يَحرصَ على نفسه وبنيه وبيته، فلا يتسبب لهم بالأذية، ولا يوقعهم في المحذور، و (يلِّي ما بيخاف الله خاف منو).
كان أبو وليد يُهَوِّنُ لها من أمر هؤلاء الظلمة، فهم ليسوا سِوى زَبَدٍ سيذهب جُفَاءً بعد حين، وسيبقى ما ينفع الناس في الأرض3، وأنه (ما بتكبر إلا المزبلة وما بيعلى إلا الدخان)، وأن قدر الله غالبٌ لا مفر منه فـ (المكتوب ما منه مهروب)، وأن الصبرَ قد نفذ، والأبوابَ قد سُدَّت، فلم يبق لدى الناس علمٌ ولا عملٌ ولا دنيا ولا دين، فأضحى حالهم كفقراء اليهود، لا دنيا استفادوا ولا جنةً نالوا.
فكيف لها وهي الجالسةُ في بيتها، أن تشعرَ بمعاناة الناس ومصائبهم وهمومهم، فـ (يلِّي عم ياكل العصي … مو متل يلِّي عم يعدها)، وهل من يغمس أصابعَه في الماء كمن يغمسُها في النار و (يلِّي إيديه بالمي … يا أمَّ وليد … مو متل يلِّي إيديه بالنار)، و لو أنها ذاقت نذراً يسيراً مما يناله من هوان كل يوم، لطفح بها الكيل، ولما نطق لسانُها بكلمة عتاب واحدة، فـ (يلِّي ما ذاق المغراية … ما بيعرف شو الحكاية).
لكنَّ (العروسة)، آه من (العروسة)، كم كانت ملامحُها وطباعُها تذكرني بالحجي و الحجة، فهي الوحيدةُ في المنزل التي ورثت من جدها حبَّ الياسمين، وعشقَ الياسمين، فكانت تُطَيِّبُ خاطري، وتَربِتُ بكفها الناعمة على أغصاني، وتُقَبِّلُ زهراتي الوليدات، وتملأ صدرها كل صباح ومساء من عطريَ الفواح، فلولا يدها الحنونة، لكنت قد (حردت) من زمان.
ملأ نور الشمس أرجاء أرض الديار ولم يعد أبو وليد وابنه الشاب من صلاة الفجر حتى الآن، ولازالت أصوات الرصاص تلعلع بين الفينة والأخرى، فتنشر الرعب والخوف في المكان.
منذ عدة شهور تغيرت رتابة الحياة في المنزل بعض الشيء، حركةٌ غريبةٌ دبَّت في أركانه وجنباته، همساتٌ خافتةٌ، ودموعٌ وتنهداتٌ خائفة، وغمزاتٌ وإشاراتٌ مكتومة، فـ (الحيطان لها آذان)، و (الحرص واجب) في هذا الزمان، ومن ذهب لايعود، و (ألف قولة جبان ولا قولة الله يرحمه).
تكررَ خروجُ أبي وليد صُحبةَ ابنه في ظُلمة الليل، حامِلَينِ على ظَهرَيهِمَا وبأيديهما بُقَجاً كبيرة ثقيلة، لا تشبه بقج الحمَّام السالفة، مُتَلَفِّحَيْنِ بعتمة الليل، مُتَسَتِّرَينِ تحت أجنحة الظلام، تَارِكَيْنِ وراءهما أمَّ وليد وابنتها (العروسة) راكِعَتَينِ سَاجِدَتَينِ رافِعَتَينِ أيديهما إلى السماء، راجِيَتَينِ السلامةَ والنجاةَ للغياب.
في ذلك الصباح المشؤوم، رنَّ جرس البيت رنة واحدة قصيرة، فهبت أمُّ وليد وعروستُها مذعورتين يخفقُ قلباهما من اللهفة والخوف، وأدارتا المفتاح الصغير في قفل الباب الجديد على عجل، فدَلَفَ شابان ملثمان إلى المنزل، وهما يحملان كيساً ثقيلاً على عاتِقَيهِمَا، تَلفَتَا في أرض الديار ثم توجَّهَا نحوي، ومَدَّدا الكيس برفقٍ تحت أغصاني، وعالجا فوهته قليلاً بيديهما حتى فتحاه، فبدا بداخله أبو وليد مضرجاً بدمائه.
كانت جراحُ أبي وليد تنزفُ بغزارة، بعد أن أصيبَ كتفه في المعركة الدائرة منذ الفجر، فقد اكتشف القنَّاصُ حركتهم المريبة، ولاحقهم برصاص مدفعه الرشاش بين الأزقة والبيوت، فلم يُفلِتوا منه إلا بشق الأنفس، وحين ولجوا البيت كان المجرم لا يزال يبحث عنهم مع زمرة من أعوانه في كلِّ أرجاء الحي.
اصطبغت أغطية الصلاة البيضاء التي ارتدتها أم وليد و (العروسة) بالدم الأحمر القاني، وانكبت (العروسة) على والدها تُقَبِّلُ كتفهُ النازفةَ ويديه، ودموعُها تجري على وجنتيها الغضتين فتنهمرُ سيولاً على وجهه وجبينه، وكتمت أم وليد آهاتها في صدرها، فها قد وقع المحذور، وتحقق ما كانت تخافه وتخشاه.
كادت صرخات أم وليد تَتَفَلَّتُ من فمها، فتفضحَ المستور، لولا أن توسَّلَ إليها أحد المُلَثَّمَينِ بصوت تخنقهُ العبرات، أن تكتمَ حزنها وآلامها، حتى لا يُفتضحَ الأمر وينتشرَ الخبر، ويكون مصيرهُم جميعاً، كمصير أبي وليد.
فتح أبو وليد عينيه قليلاً، و مرَّ بنظره على زهراتي الدامعة، وزوجِه المكلومة، وعروستِه الباكية، وراح يرددُ فَرِحا والآلام تعتصرُه :
يتبع
|
|
|