أول ما بدينا ..
على النبي صلينا ..
يا صلاتك يا محمد ..
وبالصلاة صلوا عليه ..
وا علينا وا عليه ..
وعلى من زار قبره ..
حجيت الحجاج لاجله ..
وعلى من حج إليه ..
وادللي يا عيني ..
على هالحج الزيني ..
وادللي يا غاليه ..
لاطلع لك العالية..
مسا الخير ومسا الخير ..
الله يمسيكم بالخير..
الله يمسي حارتنا ..
يللي لمت شملتنا ..
يا سباع البر حومي ..
اشربي ولا تعومي ..
اشربي من بير زمزم ..
زمزم عليها السلام ..
يا سلام اضرب سلام ..
عللي مظلل بالغمام ..
الغمامة غمتو ..
غمتو وما لمتو ..
غمتو خوفاً عليه ..
وعلينا وعليه ..
وعلى من زار قبره ..
وعلى من حج إليه ..
محمد زين محمد زين ..
محمد يا كحيل العين ..
ودخل الحجي و الحجة البيت الذي زُينت جنباته، بين (زَلاغِيط) الصبايا وأهازيج النساء :
أوها … يا حجي … حج البيت يلبقلك
يللي مسكت شباك النبي … تنقل على مهلك
يللي ملايكة السما … قامت ونادتلك
لرش والله ورد الحبق على دربك
لي لي لي ليش
فجاوب أخريات :
شقشق العصفور لانفلق
بين الدوالي والورق
يا محلا فوتة الغايب
وشُّو مكلل بالعرق
ازدحم البيت بالمهنئين أياماً عديدة، يدخلون ويخرجون أفواجاً أفواجاً، وصُفَّت أطباقُ الفواكه، وصَواني الحلويات، وأكوابُ الشاي، وفناجينُ القهوة، وتمرُ المدينة (هدية النبي).
وحين عاد الحجي من صلاة الفجر، في اليوم التالي لرجوعه الميمون من الحج، وقف في أرض الديار يتفقدنا فرداً فرداً، يَربِتُ بيده على الغصون، ويداعب الوريقات، ويَنكُش التراب، ويشم الزهور والورود.
كنت أتمنى أن أقفزَ من مكاني كما يفعل الأطفال، أناديه، أقول له، أنا هنا، هنا … حبيبتك الياسمينة البلدية البيضاء، أُنْظُرْ إلى صِبَايَ وجمالي، فقد زينتُ أغصاني خصيصا لقدومك، ونثرت أجمل أزهاري فرحاً لعودتك، لكنه تابع خطواته دون أن يلتفت إلي.
لو كان لي دموع، لو كان لي لسان، سبحانك ربي، وهبتني عطراً جميلا، لا أملك سواه، تُرى هل يُعقلَ أن تعشقَ ياسمينةٌ بريئة (حجياً) محترماً، أو يقعَ (حجيٌ) طيبٌ في غرام ياسمينةٍ بيضاء.
استدار الحجي فجأة بعد أن أنهى جولته في أرض الديار، وتوجه صوبي، أجل صوبي أنا، إنه قادم إلي، وقف أمامي، تأملني من جذوري إلى أعلى غصوني، مسح برفقٍ على بعض وُريقَاتي، قبَّل زهرة من زهراتي، وخاطبني بصوت رفيق حنون : “وَصَّلْتُ سَلَامَكِ للنَّبِي”، “قلت له تُسَلِّمُ عَلَيكَ ياسمينتي البلدية البيضاء”.
عاد الهدوء والنظام للبيت بعد عدة أيام، وانتَظَمَت دورة الحياة من جديد، وعُدتُ أراقب الحجي يتوضأ عند الفجر من ماء البحرة البارد، فيُفيضُ الماءَ على وجهِه وأطرافه، ثم يستكملُ زينتَه، ويلبسُ ثيابَه الأنيقة، وينثرُ على نفسِه بعضاً من عطر الياسمين، ثم يتجه بخطوات بطيئة إلى (باب الزقاق)، فيفتح (الدقر) بـ (الساقط) الحديدي الطويل، ويطرقُ بـ (السقاطة) طرقة واحدة أو طرقتين خفيفتين، مستحثاً ابنه الفتى أبا وليد حتى لا تفوتَهم الصلاة.
كان أبو وليد يومَها فتى صغيراً (لم تفقس عنه البيضة بعد)، وكان وحيدَ الحجي لم يرزق ولداً غيره، ولم يدَّخِر هو والحجة جهداً في تربيته وتنشئته تنشئة طيبة صالحة، فهو بكرهما و (أول فرحتهما) وآخرها كما اتضح فيما بعد.
كانت الحجة تغني له في صغره وهي تهز (المَرجُوحَة) التي عُلِّقَت في أرض الديار :
أُوْ لَّا يا أو لَّا ني راح الحج و خلَّاني
راح الحج عَبْلادو يا ربي لا تنساني
حطيتو بالمرجوحة خفت عليه من الشُّوحة
و هزيلو يا شرشوحه بركي على صوتك بنام
هزيلو يا سعدية ستي زينب ورقية
لابسه جبّة خضره بركي على صوتك بنام
ولم يكن أبو وليد يُسْلِمُ عينيه للنوم مالم تحكي له الحجة حكاية من حكاياتها العجيبة، مُدبَّجةً بعبارتها المشهورة : (بَرَّا كانْ و جُوَّا كانْ و تَخْترْوَانْ و شَادرْوَانْ لَحَتَّىْ كانْ … )، ويوم (طهور) أبي وليد، ألبس الجلابية البيضاء، وأركب على حصان، ووضع (طربوش) صغير على رأسه، وعَمِلَت الحجة (ليلية)، قدمت فيها الضيافة (الكاملة) للمهنئات.
وهكذا تربى أبو وليد (كل شبر بندر)، وأرسل إلى (الكُتَّاب)، وداعبت رأسه الصغيرة (مَصْطِيْجَةُ) الشيخ سليم حين تلكأ في إتمام (جُزُو عَمَّ)، وتعلم من شيخه قصيدتَه العصماء التي لطالما سمع الفتيةَ في الحارة يرددونها :
ألف : لا شن عليها ..
با : وحده من تحتها ..
تا : تنتين من فوقها ..
ثا : ثلاثة من فوقها ..
حتى إذا شهد له (شيخ الكُتَّاب) بإتقان الكتابة والحساب، وإتمامِ حفظ كتاب الله، ألحقَهُ الحجي بـ (مكتب عَنْبَرْ) ليُتِمَّ تحصيله العلمي هناك، فابنه ليس أقلَّ قدراً من علي الطنطاوي و أنور العطار و شكري القوتلي.
وكان حتماً على أبي وليد أن يتقنَ فوق ذلك كله (كارا) من الكارات، فالشوام أصحاب تجارة وصناعة، وكثير من أسماءِ عائلاتهم نسبةً إلى (الكار)، فمنها الصواف واللحام والطيان والحفار والبغجاتي والطرابيشي والنشواتي والألجاتي، وكان على أبي وليد أن يختار بين أن يلتحقَ برفاقه في (خان الوردة) ليتعلمَ فتل الحرير وتجارته، أو يتخصصَ في (الألاجة) والنسيج.
فإذا رضي (شيخ الكار) عن أبي وليد، وشَهِدَ له بإتقان كاره، فحينذاك يكون قد جمع بين الدين والعلم والصنعة، وصار (شَب مشُورَب)، لا ينقصه إلا إكمال نصف دينه بزوجة كريمة (بنت عالم وناس).
كانت الحجة محتارة فيمن تختار زوجة لإبنها الشاب، فالحجي له وزنه ومكانته بين وجهاء الحي و (أكابرِيته)، والجميع يرغب في مصاهرته، وأبو وليد شابٌ خلوقٌ متعلمٌ صاحبُ صَنعةٍ وجيبه (ملآنه)، وهو فوق ذلك كلِّه، وسيمُ المحيا، طاهرُ الذيل، مشرقُ الوجه، جميلُ الطلعة.
كانت الحجة حائرةً مترددة، فهل تختار لإبنها عروسة من بيت (الحَسَنِي) أبناءِ الشيخ بدر الدين، أم من بيت (المُنَجِّد)، أم من بيت (الشهبندر)، أم من بيت (الالشي) الذين قَدِمَ أجدادهم من الأندلس منذ سنين طويلة، وكلها عائلات كريمة (أكابر)، يحبهم الحجي ويحبونه.
كان الحجي و الحجة يتوقان لليوم الذي يمتلأ فيه البيت بأحفادهم، يعيدون الحياة إليه بصياحهم وضحكاتهم، وهَرَجِهم ومَرَجِهم، وكان هَمُّ الحجي أن يُرزق بحفيدٍ يحمل اسم العائلة من بعده، وحفيدةٍ تنشر الحنان والجمال والرقة في البيت، وكان يستعجل الأمر بعد أن وهنت قوته، وضعف جسده.
كان يوم (اللازمة) يوماً لا يُنسى، أُخْرِجَتْ فيه عُدَّةُ (الغَنْدَرَة) من صناديقها، وتناثرت أدواتُها في كل صَوبٍ ورُكن، مابين (المكاحل) الخشبية والنحاسية، و (علبة مَكِّي)، و (الدُّرُور الأحمر)، وبتلات الورد الجوري، وأزرارُ الفُلِّ البلدي، و (السُلَيْمَانِي)، وازدحم دكان (بُرُّوْ العطار) بالزبونات، يسألنه ويطلبن منه كل جديد.
ومن جهتي أنا الياسمينة البلدية البيضاء، و (كُرْمَى) لعيون الحجي … و الحجة، تبرعت بمجموعة كبيرة من أجمل زهراتي، لتُصنع منها عقود الياسمين، يُزينُ بها رأسُ العروس وجيدُها.
وفُتحت أبواب الخُزُنِ وحُلَّتِ الصُرَرُ الأنيقة وأخرجت منها نفائسُ الفُرُشِ والثياب، وزُيِّنَت زوايا البيت بالدَّامسكو و (الأغباني)، وأخرجت الحجة من صندوقها الخاص قطعا من الذهب والألماس، فهي (مُنْعَمَة) والحمد لله لا تحتاج إلى (العِيرَة)، واختارت منها ما ستقدمه هي والحجي وابنها للعروس.
وبدأ الخياطون بتفصيل ثياب جديدة تليق بالحجة وابنها العريس، وأخرجت عصا الحجي الأبنوس السوداء الثمينة، وطقمه العربي النفيس، وتم اختيار طربوش رسمي للحجي تدلت خلفه (شَراشِيبُهُ) الحريرية السوداء، وطُرزت حوافه بخيوط الذهب، يليق بالمناسبة الهامة، فضيوفه اليوم وجهاء أهل الحي، و (كبارية) البلد.
والطربوش (قَدر وقِيمة)، يلبسه (بكاوات) و (باشاوات) الشام من أيام السلطان (سليمان القانوني)، وللحجي طرابيش كثيرة، منها ماهو للسهر مع الأصدقاء، ومنها مايصلح في الأسواق، ومنها ما هو رسمي لمقابلة الوجهاء و (المقامات)، شأنه في ذلك شأن (المُنْعَمِين) وميسوري الحال، أما الفقراء والبسطاء فلديهم طربوش واحد فقط.
حجزت أسرة العريس (حمام نور الدين الشهيد) وسط (سوق البزورية)، قرب (خان أسعد باشا)، رغم بعده النسبي عن البيت، فهو يليق بمكانة الحجي وأسرته العريقة، فجدرانه مرصعة بـ (القاشاني)، وأرضه مفروشة بالرخام، وقِبابه مزينة بعقود الجص النافرة، بينما اختارت أسرة العروس (حمام البَكري) القريب من دارهم لتجهيز العروس، ودفعوا الإكراميات للـ (مُكَيِّسَة) و (البلَّانة) و (الناطورة).
أنهى العريس أبو وليد حمامه، وقُرِئ المولد الشريف، وتحلَّق حوله شبان الحي، يَخِزُونَه بالدَّبابيس، ويُشاركون الحلاق في (تلبيسه) وتطييبه، فألبس طقمه الأسود الجديد، وطربوشه الخمري، وأصدقاؤه يهتفون : “صلوا على محمد … مكحول العين … ونير وغضير … وعادينا … وهيه”، ثم حُمِلَ على الأكتاف، وانطلقت به (العَراضَة)، تَلُمُّ شباب الحي، وأصدقاءه وهي تنادي وتهتف فَرِحَةً :
عريس الزين يتهنا ..
يطلب علينا ويتمنى ..
عريس الزين يا غالي ..
ويا مسهرني الليالي ..
عريس الزين ما بيعو ..
لو جبلي الدهب غالي ..
شن كليلة شن كليلة ..
شو هالليلة شو هالليلة ..
من هالليلة حمل السلة ..
ومن هالليلة صار له عيلة ..
الله يعينو على هالليلة..
شو هالليلة ما أحلاها ..
للحبايب بنتمناها ..
و ياعريس كتر ملبّس
مسا الخير ومسا الخير ..
الله يمسيكم بالخير ..
الله يمسي حارتنا ..
ياللي شملة حملتنا ..
حملتنا عالشيخ رسلان ..
شيخ رسلان يا شيخ رسلان ..
يا حامي البر والشام ..
ثم تباهى شباب العراضة بشجاعتهم ورجولتهم وبطولتهم في الحرب :
وان هلهلتي هلهلنالك ..
حطينا البارود قبالك ..
وان هلهلتي يا عروبية ..
الواحد منا يقابل مية ..
كانت (بُقَجُ) النساء المُذهبة قد سبقتهن إلى الحمَّام، الذي أعدت فيه أطباق (المجدرة)، و (طواحين المخلل)، وحين عودتهن مُتَّشِحَاتٍ بالملايا السوداء، أسرعن في مِشيتهن، تحاشيا لأنظار الفضوليين وألسنة (الزعران)، التي اعتادت معاكسة النِّسوَة المُستَحِمَّات :
يا رايحة عالحمام خديني معاك
لاحمل البقجة وإمشي وراك
وان كان أبوك ما عطاني ياكي
لاعمل عمايل ما عملها عنتر

يتبع